اتفاق التحكيم في المواثيق الدولية
مقدمة
ازدهر التحكيم التجاري الدولي مع ازدهار التجارة الدولية و ارتبط بها ،فكان يتألق كلما تألقت التجارة الدولية ، فحين ازدهرت التجارة الدولية في القرون
الوسطى من خلال إقامة المعارض و الأسواق ، لا سيما في ألمانيا و أسبانيا وهولندا و فرنسا و إيطاليا ظهر قانون ، عادات و أعراف التجارة التي لا تعرف حدودا إقليمية [1].
وظهر التحكيم التجاري الدولي في القانون على إثر تطوره الكبير وانتشاره السريع
في عالم التجارة الدولية . فالتحكيم ليس بظاهرة جديدة مستقلة بجذورها عن الماضي السحيق ، إنما هو تطبيقا لفكرة التحكيم في المجتمعات القديمة.
والتحكيم في الشريعة الإسلامية يكون جائزا بالكتاب و السنة
والإجماع ، ففي الكتاب الكريم يقول الله تعالى : " َإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا..."[2]. كما قال عز وجل " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواتَسْلِيمًا "[3].
و إذا كان الأصل أن القضاء ، وهو مظهر من مظاهر سيادة الدولة لا
يمارس إلا بواسطة السلطة العامة المخصصة لذلك ، ويجب أن لا تقوم به سوى الدولة فإنها بما لها من سلطة تستطيع أن تعترف لبعض الأفراد أو هيئات غير قضائية بسلطة الفصل في بعض المنازعات التي تدخل أصلا في الولاية القضائية المقررة للقضاء العام للدولة وفي نطاق معين و متى توافرت شروط معينة .
فليس من قبيل المصادفة البحتة أن تأتي البداية الحقيقية لظهور التحكيم التجاري الدولي عقب
الحرب العالمية الأولى( 1914-1918) ، فقد كانت النتائج التي خلفتها هذه الحرب تمثل انهيارا محزنا لكثير من المشروعات الخاصة ، وفقدان الثقة لدى غالبية المتعاملين في التجارة الدولية في انطلاق أية أنشطة اقتصادية جديدة ، الأمر الذي أصبح معه التعامل - مرة أخرى- في ميدان التجارة الدولية يثير صعوبة بالغة . و بينما كان العالم يبحث عن السلام في مؤتمر فرساي الذي عقد في مدينة باريس (يناير 1919 ) جاء الاقتراح الصادر من الوزير الفرنسي إيتيان كليمانتال[4](Etienne Clementel) بإنشاء غرفة للتجارة الدولية تكون ملتقى لجميع الشركات الخاصة في العالم، فكان ذلك بمثابة
الأمل الذي أعاد الثقة و الطمأنينة في نفوس المتعاملين بالتجارة الدولية ، وتعبيرا صادقا عن رغبة المجتمع الدولي في وجود مؤسسة غير حكومية ترعى مصالح هؤلاء المتعاملين وتوفر لهم الأمن و الحماية القانونية .
وبعد مجهودات كبيرة بذلتها الغرفة ، صدر تحت رعاية عصبة الأمم
بروتوكول جنيف في 24/09/1923 بشأن شروط التحكيم ، والذي نص في مادته
الأولى على تعهد كل دولة متعاقدة بالاعتراف بشروط واتفاقات التحكيم في المعاملات الدولية الخاصة[5].
و لم يكن هناك
نص في البرتوكول يلزم الدول المتعاقدة بتنفيذ هذه الأحكام ، لذا فقد كان على غرفة التجارة الدولية أن تبادر بعلاج هذا القصور وتقوم بالإعداد لاتفاقية مكملة للاتفاقية الأولى بشأن تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية . وبالفعل فقد صدر بتاريخ 26/09/1927 تحت رعاية عصبة الأمم اتفاقية جنيف بشأن تنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية والتي انظمت إليها أغلب الدول التي وقعت البروتوكول . وهكذا أصبحت هاتان الاتفاقيتان تمثلان أول نظام قانوني عالمي للتحكيم التجاري الدولي .
وهكذا حظي التحكيم باهتمام المجتمع الدولي وأقر
له عدد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية، والتي تعتبر مصدرا رئيسا لمعظم أنظمة
وقوانين التحكيم في دول العالم المختلفة، ومن أهمها تلك المعاهدات :
•
بروتوكول جنيف لعام 1923 بشأن بشروط التحكيم.
•
اتفاقية جنيف لعام 1927 بشأن تنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية.
•
اتفاقية جامعة الدول العربية عام 1952 بشأن تنفيذ الأحكام بين دول الجامعة.
•
اتفاقية عمان العربية للتحكيم التجاري لعام 1987.
•
اتفاقية نيويورك لعام 1958 بشأن الاعتراف بأحكام المحكمين الأجنبية وتنفيذها.
•
الاتفاقية الأوروبية بشأن التحكيم التجاري الموقعة في جنيف عام 1961 والترتيبات
المتعلقة بتطبيق هذه الاتفاقية والمعتمدة في باريس عام 1962.
•
اتفاقية واشنطن لعام 1965بشأن تسوية المنازعات عن طريق التحكيم المتعلقة
بالاستثمارات بين الدول ورعايا الدول الأخرى الموقعة.
•
اتفاقية موسكو لعام 1972 بشأن تسوية المنازعات بين الدول الاشتراكية عن طريق
التحكيم.
•
اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول المضيفة للاستثمارات العربية وبين
مواطني الدول العربية الأخرى الموقعة عام 1974.
وقد
سعت هيئة الأمم المتحدة إلى توحيد القواعد المنظمة للتحكيم حيث أقرت لجنة الأمم
المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال)، في 21 يونيو 1985 القانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي، ومن
ثم أوصت الجمعية العامة جميع الدول بتبنيه. وهو القانون الذي استعانت به غالبية التشريعات
المقارنة في وضع قوانينها الخاصة عن التحكيم التجاري الدولي
ومن بينها المغرب بموجب قانونه عدد 05-08.
وفي ظل هذا الاهتمام الدولي الواسع في التحكيم،
نشأ عدد من مراكز التحكيم الدولية والإقليمية ومن أهمها:
· المركز
الدولي لفض منازعات الاستثمار، والذي جرى تأسيسه تنفيذًا لأحكام اتفاقية واشنطن
لعام 1965بشأن تسوية المنازعات عن طريق التحكيم المتعلقة بالاستثمارات بين الدول
ورعايا الدول الأخرى الموقعة، ومقره واشنطن.
· محكمة
التحكيم الدولية التابعة لغرفة التجارة الدولية (ICC) ومقرها باريس.
· محكمة لندن
للتحكيم الدولي (LCIA) ومقرها لندن.
· جمعية
التحكيم الأمريكية (AAA) ومقرها نيويورك.
· مركز
التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومقره المنامة.
· مركز
القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري الدولي ومقره القاهرة.
· مركز تحكيم
حقوق عين شمس، ويتبع كلية الحقوق بجامعة عين شمس بمصر، ومقره القاهرة.
ومما لا شك فيه الآن، أن التحكيم في الوقت الحاضر أصبح أهم وسيلة
يرغب المتعاملون في التجارة الدولية اللجوء إليها لحسم خلافاتهم الناتجة عن تعاملاتهم فلا يكاد يخلو عقد من عقود التجارة الدولية ، من شرط يتفق بموجبه على إتباع التحكيم عند حدوث نزاع أو خلاف يتعلق بتفسير أو تنفيذ العقد المذكور، ذلك لأن العقود الدولية تختلف عن العقود الخاصة بالتعامل الداخلي، حيث أن هذه الأخيرة تحكمها قواعد القانون الداخلي، أما العقود الدولية تكون في الغالب بين أطراف ينتمون إلى دول مختلفة . وتختلف قوانين تلك الدول في معالجة القضايا التي تطرح نتيجة الخلاف بين الأطراف ، في حين أصبحت قواعد التحكيم معروفة على الصعيد الدولي و متبعة من قبل التجار.
والأمر الآخر الذي جعل الإقبال شديدا على حسم المنازعات بالتحكيم هو تجنب المتعاقدين عرض خلافاتهم لحسمها من قبل محاكم دولة الطرف الآخر لما في ذلك من تحمل الرسوم وتكاليف باهضة واستغراق وقت طويل ، ولما يتضمنه الحكم القضائي من عنصر الإجبار والقسر في حالة عدم تنفيذه . ولهذا السبب نجد أن الطرفين يتذرعان بعدم معرفتهما للنظام القانوني والقضائي لدولة الطرف الآخر ، لكي يستبعدا عرض النزاع على القضاء الوطني. وفي الحقيقة فإن السبب هو عدم الثقة بالنظام القضائي لدولة الطرف الآخر في العقد[6] .
وباستقراء التشريعات المقارنة نلاحظ أنها لم تتضمن تعريفا
قانونيا للتحكيم التجاري الدولي بما في ذلك القانون النموذجي نفسهمما جعل فقهاء القانون يعمدون الى وضع عدة تعريفات للتحكيم.
ولذلك
نجد الأستاذ رينيه دافيد
RENE DAVID قد عرف التحكيم في كتابه (التحكيم في التجارة
الدولية) بأنه تقنية ترمي إلى إعطاء حل لمسألة تكون محل اهتمام علاقات بين شخصين أو أكثر ، والذي يتولاه شخص أو أكثر – محكم أو محكمان- يستمدون سلطتهم من اتفاق خاص ، يحكمون على أساسه دون أن تقلدهم الدولة هذه المهمة [7]
ويعرفه الأستاذان روبير و مارو(ROBERT et MAREAU) بأنه نظام القضاء الخاص يتم بموجبه إخراج المنازعات من القضاء العادي ليتم الفصل فيها بواسطة أفراد يكتسبون مهمة القضاء فيها
.[8]
وهكذا ينشأ التحكيم عن إرادة الخصوم ، فهذه الإرادة هي التي تخلق التحكيم
و هي قوام وجوده و بدونها لا يتصور أي وجود للتحكيم . فالتحكيم يحافظ على العلاقات بين الطرفين فهو ليس طريقا هجوميا عنيفا ، وإنما هو أقرب إلى التفاهم بين الطرفين بخلاف استعمال أساليب الكيد – في الغالب – أمام القضاء العادي ،. لذلك يقال أن الأطراف يدخلون إلى التحكيم و هم ينظرون إلى الأمام [9].
وبذلك
يمكن القول بان اتفاق الطرفين على اللجوء الى التحكيم هو السند القانوني لوجود
التحكيم .
فكيف
تناولت الاتفاقيات الدولية التي تعنى بالتحكيم
هذا الاتفاق على الولوج الى التحكيم ؟ وماهي صوره وشروطه ؟ وما هي اثاره ؟
ومن
خلال بحثنا الحالي سوف نحاول الإجابة على هذه التساؤلات وذلك من خلال ملامسة الموضوع
عبر مبحثين على الشكل الثالي .
المبحث
الأول: ماهية اتفاق التحكيم وصوره وشروطه في الاتفاقيات الدولية.
المبحث الثاني: اثار اتفاق التحكيم و الدفع بوجود هذا الاتفاق .
[6] - فوزي محمد سامي " شرح القانون التجاري
،
التحكيم
التجاري
الدولي " ،
مكتبة
الثقافة
للنشر
و
التوزيع
،
ص 11
[9] - معوض عبد التواب " المستحدث في التحكيم
التجاري
الدولي " ،
دار
الفكر
الجامعي
،
ط 1سنة 1997 ، ص12.
0 التعليقات: